
بيت الأدباء والشعراء
حديث الجمعة بقلم على الشافعي الجيش المحنط
حديث الجمعة بقلم على الشافعي
الجيش المحنط
هل سمعتم ــ ايها السادة الكرام ــ بالجيش المكفّن المـحنط ؟ وهل سمع به ابناؤنا او قراؤوه في كتبهم المدرسية , او مطالعاتهم الشخصية , او حتى الافلام السينمائية التاريخية التي عملت عنه ؟ ما قصة هذا الجيش ومن هو قائده ؟ ولماذا سمي بالمحنط ؟ ومتى كان ذلك ؟؟ تعالوا ننفض الغبار عن صفحة من تاريخ نسيه اهله او تناسوه وربما نُسُّوه او جُهّلوا عمدا لينسوه . اذن تعالوا نبدأ القصة من اولها بعد ان تذكروا الله وتصلوا على انبيائه :
الزمان ــ يا دام سعدكم ــ (26أغسطس 1071م اواخر ذي الحجة 463 هـ) , والمكان هو معركة ( ملاذكرد) الشهيرة (حاليا في محافظة موش في تركيا) , قائد هذا الجيش هو عضد الدولة (أبو شجاع ) محمد بن جفري بك داود بن ميكائيل بن سلجوق (20 يناير 1029 – 15 أو 25 أو 30 ديسمبر 1072م)، من الاسرة السلجوقية التي اسسها الزعيم “سلجوق” في القرن الرابع الهجري. وقد ساند السلاجقة الخلافة العباسية في بغداد ، بعد أن أوشكت دولة الخلافة على الانهيار واخرت الغزو الصليبي للمشرق العربي مائتي سنة . وابو شجاع أحد ابرز قادة المسلمين وكبار رجال التاريخ ، وصاحب الانتصار الخالد على الروم في معركة ملاذكرد . عُرف بإسم (ألب أرسلان) ومعناها بالتركية (الأسد الباسل). كان رابع حكام السلاجقة , لقب بسلطان العالَم أو بالسلطان الكبير او الملك العادل . بلغ حدود حكمه من أقاصي بلاد ما وراء النهر إلى أقاصي بلاد الشام ، ورغم عظم مملكته، إلا أنه كان تابعاً للخلافة العباسية في بغداد, وحافظ على هيبتها طوال مائتي عام حتى زوالها على يد المغول .
تولى ألب أرسلان حكم دولة السلاجقة سنة (455 هـ/ 1063 م), ومدَّ سلطانها حتى غدت أكبر قوة في العالم الإسلامي ، وقضى السنوات الأولى من حكمه في المحافظة على ممتلكات دولته وتوسيع رقعتها، وتأمين حدودها من غارات الروم المتكررة على شمال بلاد الشام , وقد قيض الله له الوزير ‘نظام الملك’ الذي اشتهر بعلمه وحنكته السياسية واليه تنسب المدارس النظامية في المشرق العربي
ذكر المؤرخون في حوادث سنة( ثلاث وستين وأربعمائة للهجرة) ان (ألب أرسلان) كان عائدا من معركة من معاركه إلى عاصمة بلاده طبرستان على الساحل الجنوبي لبحر قزوين ، وكان جيشه قد أنهكه القتال الطويل المرير مع الروم الذين كانوا يغيرون على تخوم الدولة العباسية , يقتلون ويروعون . بينما كان عائدا في جيش لا يتجاوز خمسة عشر ألف رجل بين منهك وجريح ، سمع ملك الروم (رومانوس الرابع) بعودة الجيش المسلم منهك القوى ، فأقبل في جحافل من الروم ، والكرخ ، والفرنج في عدد عظيم قوامه حوالي مائتي ألف مقاتل ، ومعه من الفرنج خمسة وثلاثون ألفا ، ومن الغزاة الذين يسكنون القسطنطينية خمسة عشر ألفا ، وأما عدته فأربعمائة عجلة تحمل النعال والمسامير، وألفا عجلة تحمل السلاح والمجانيق.
بلغ الخبر ((ألب أرسلان))فاحتار في أمره قليلا ثم قام ــ وقد عزم على امر ــ فدخل خيمته وخلع ملابسه ، وحنط جسده . ثم تكفن وخرج ووقف خطيبا في جنده قائلا : (إن الإسلام في خطر ، وإن المسلمين اليوم في خطر، وإني أخشى (لا إله إلا الله ) أن يقضي عليها في الارض . ثم صاح : وا إسلاماه.. وا إسلاماه ,ها انا ذا قد تحنطت ، وتكفنت ، فمن أراد الجنة، فليفعل كما فعلت , ولا ارغم احدا ، ولنقاتل دون لا إله إلا الله حتى نهلك أو ترفع لا إله إلا الله.
وما هي إلا ساعة حتى تكفن جيش المسلمين كله ، تفوح رائحة الحنوط ، وتدوي صيحات الله أكبر صاعدة إلى السماء :يا خيل الله اركبي ..يا خيل الله اثبتي.. لا إله إلا الله . كان مع الجيش الفقيه (أبو نصر محمد بن عبد الملك البخاري ) الذي أشار عليه أن يكون وقت المعركة يوم الجمعة بعد الزوال ، وحين يكون الخطباء يدعون للمجاهدين. فلما كان ذلك الوقت وتراءت الفئتان نزل الملك (ألب أرسلان)عن فرسه، وسجد لله عز وجل، ومرغ وجهه في التراب ودعا الله تعالى واستنصره . ثم دخل المعركة . وما هي إلا ساعات تطايرت فيها رؤوس وسالت دماء ، حتى أنزل الله نصره على المسلمين ، ومنحهم أكتاف عدوهم ، وأسر ملك الروم الذي طلق السلطان ألب أرسلان سراحه بعد أن تعهد بدفع فدية كبيرة قدرها مليون ونصف دينار، وأن يطلق كل أسير مسلم في أرض الروم، وأن تعقد معاهدة صلح مدتها خمسون عامًا، يلتزم الروم خلالها بدفع الجزية السنوية، وأن يعترف الروم بسيطرة المسلمين على المناطق التي فتحوها من بلادهم، وأن يتعهدوا بعدم الاعتداء على ممتلكاتهم .
بعد انتصار المسلمين في هذه المعركة تغيّرت صورة الحياة والحضارة في هذه المنطقة , منذ ذلك الوقت حتى يومنا هذا ؛ فاصطبغت بالصبغة الإسلامية بعد انحسار النفوذ البيزنطي تدريجيًا عن هذه المنطقة ، ودخول سكانها في الإسلام . كما أن هزيمة الروم في هذه الموقعة جعلتهم ينصرفون عن هذا الجزء من آسيا الصغرى ، ثم عجزوا عن الاحتفاظ ببقية الأجزاء الأخرى أمام غزوات المسلمين ، مما اخر الغزو الصليبي لبلاد الشام حوالي ماتي سنة . وقد توالت هذه الغزوات في القرون الثلاثة التالية لموقعة ملاذكرد، وانتهت بالإطاحة بدولة الروم، والاستيلاء على القسطنطينية عاصمتها، واتخاذها عاصمة للدولة العثمانية، وتسميتها بإسلامبول أو إستانبول.