حين يكون المشهد غابةً قويها لا يرحم، وضعيفها لا يفهم، وصغيرها ببغاء من دون وعي يُكرر ويُردد.
حين تُدنَّس النفوس ويربو تضخم الفلوس، حين يتحول الناس إلى ممثلين حتى على أنفسهم وذويهم، ويغيب صراط الشرع ويخبو ضوء العقل، ويصول الباطل ضارباً بأطنابه في كل حدب وصوب.
وحين يسطو الأمن السياسي ويتقهقر الأمن الاجتماعي.. لابد قبل احتقاب السرقات بالإكراه – أو معه – من تجارب في النصب والاحتيال وذلك بالعزف على وتري الغفلة والطمع..
وإلى قصصنا..
مشهد سينمائي قديم
يجابهنا مشهد، في بواكير العمل السينمائي المصري، يبعث على انفطار القلب؛ رجل ضخم الجثة، قاسي القلب، شَهِيّ الاحتيال.
يُمسك بطفل صغير يضربه ضرباً مبرِّحاً والطفل يصرخ مستنجداً مستجيراً في استماتة، وهو تارةً ينجح في الإفلات ممن يضربه، وأخرى يقع بين براثن يديه اللتين لا ترحمان صراخه ولا تأبهان لعَذَابَاتِه.
ثم يتدخل أحد المارة عَجِلاً مشفقاً لإنقاذ الطفل من بأس الرجل.
وإن هي إلا لحظات وينجح الطفل في الإفلات من معذِّبه وبعد أن يختفي المعذِّب والمعذَّب معاً عن المرأى يكتشف المنقذ الهُمام لحظتها أن نجاح الطفل في الهروب والإفلات كان ثمنه فقدان حافظة نقوده!
بائع المقشار
في “العتبة الخضراء” حين كنا صبية صغاراً كانت أنظارنا تقع على بائع يعرض مقشاراً مُغلَّفاً للكوسة والبطاطس والباذنجان ونحوها.
كان الرجل يقشر هذه الخضراوات أمام نواظرنا بمهارة وسرعة خاطفة؛ ما حمَّسنا لشراء هدايا إعزاز وتقدير لأمهاتنا مما يعرضه.
وما إن نصل إلى بيوتاتنا تحدونا الفرحة، وتغمرنا السعادة، ويتملكنا إحساس بالفوز والاقتناص فنزجي الهدايا لأمهاتنا.. حتى نكتشف أننا اشترينا “مقشار” بطاطس مُقلَّداً يشبه في حجمه وشكله فقط ما كان بيد الرجل.
إلا أن خامته مختلفة، وأداءه متباين، وسرعان ما ينثني هذا “المقشار” في أيدينا بمجرد إعماله في أوهن الخضر وألينها!
هل سقط منك شيء أو وقع؟
وفي “بولاق الدكرور” كان يمر الأستاذ عزب، ذلك الشاب الصعيدي الشاعر الموهوب، والتعس المنكوب، ليوقفه أحدهم:
المتحايل: يا أستاذ، هل سقط منك شيء أو وقع؟
عزب (متحسساً جيوبه): لا.. لم أفقد شيئاً ولم أُضِع.
المتحايل: انظر بعدُ جيداً ولا داعي للعَجَل.
عزب (متأكداً مرة أخرى): قد نظرتُ وما أنا بالعَجِل.
المحتال: وجدتُ من المال مبلغاً وأظن أنه لك.
عزب (مخرجاً كل ما كان معه): يا سيدي هذا كل ما معي.
المحتال (خاطفاً ما أبداه عزب مولياً غير معقب):
أحقاً هذا كل ما معك؟!
قنص الهواتف والسلاسل والحقائب:
وفي الجيزة حيث كان يسير “عُمَر” بجوار الرصيف متحدثاً في هاتفه منهمكاً في الحوار مندمجاً.
وكان هاتفه متعدد الوظائف غالي الثمن، فإذا برجلين متربصين امتطيا “موتوسيكل” فائق السرعة والقُدَر.
أحدهما ممسكاً بالمقود ينتظر أمارة أو إشارة من رديفه، والآخر مُحلِّقاً بعيني صقر رامقاً مفكراً هل هذا الموبايل يستأهل المغامرة والخطر؟!
وحين تأكد الصقر من قيمة الموبايل وبأنه حقيق أن يكون في جيبه لا في يدي “عُمَر”، نكز الرديف قائده أنْ صيدٌ ثمين لاح في الأفق، وكان كل منهما يفهم عمله جيداً.
وفي تناغم لم يُرَ مثلُه إلا في فرقتي (ثُومة وحُلُم) انطلق القائد كالرعد والتقط الرديف الهاتف التقاط النسر للقطا، بعد أن دار بينهما هذا الحوار:
القائد: أنا جاهزٌ إن أصبتَ الهدف.
الرديف: دعنا أولاً منه نقترب.
القائد: تواً أُدنيك منه وتجتذب.
الرديف: أبْشِر بصيد لاح بالأفق.
القائد: إذنْ أَنْطَلِقُ الآن بلا تردُّد.
الرديف: يا له من هاتف ينبغي أن يكون معي!
موتوسيكل الشيخ مسعود:
وفي “زرقاء دمياط” كان الشيخ “مسعود” يقود الموتوسيكل مَلَكاً مُرتلاً ما تيسر من القرآن الكريم، ثم بلغ غايته فأوقف مركبته، وترجَّل عنها.
وكان محتالٌ بانتظاره في شوق عارم، واستشراف غامر، وما إن ترجَّل الشيخ عن دابته إلا بادره المحتال بكل ما أوتي من انفعال وثقة: