بيت الأدباء والشعراء
عقدة. الاستعلاء
عُقْدَةُ الاسْتِعْلاءِ، وَمَلَكَةُ التَّوَاضُع
حِيْنَ يَطْغَى حُبُّ الذَّاتِ مُتَجَاوِزاً الْحَدَّ الطَّبِيْعِيَّ يَرَى الْمُبْتَلَى بِهَذَا الْمَرَضِ نَفْسَهُ أَعْلَى مِنْ ذَوَاتِ الآخَرِيْنَ، وَحِيْنَ يَتَمَادَى بِهِ الشُّعُوْرُ بِالاسْتِعْلاءِ يَتَحَوَّلُ عِنْدَهُ إِلى عُقْدَةٍ نَفْسِيَّةٍ يُكَابِرُ عَلَى كُلِّ مَنْ حَوْلَهُ مَهْمَا بَلَغَ مِنَ الْقُدْرَةِ وَالْكَفَاءَة، وَلا يَرَى فِي نَفْسِهِ إِلا الأَقْوَى وَإِن كَانَ الأَضْعَفَ، كَمَا لا يَرَى فِي نَفْسِهِ إِلا الأَعْلَمَ وَإِنْ كَانَ جَاهِلاً لا يَفْقَهُ فِيْ أُمُوْرِهِ شَيْئاً..
أَسِيْرُ الذَّاتِ يُكَابِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ خَارِجَ ذَاتِهِ، وَيَرَى الآخَرِيْنَ مِنْ خِلالِهَا..
فَهُوَ يَكْرَهُ أَنْ يَرَى أَحَداً أَكْفَأَ مِنْهُ وَفِي أَيِّ مَجَالٍ، وَيَبْقَى يَعِيْشُ وَحْشَةَ الْكَرَاهِيَةِ لِمَنْ حَوْلَهُ مِنَ النَّاسِ مَهْمَا بَلَغَ عَدَدُهُمْ، وَتَعَاظَمَ شَأْنُهُمْ..
إِنـَّمَا هِيَ عُقْدَةٌ؛ لأَنَّهَا تَسْتَحْكِمُ بِشَخْصِيَّةِ الْمُصَابِ، وَهِيَ “الاسْتِعْلاءُ”؛ لأَنَّهَا لَيْسَتْ مُجَرَّدَ تَعَالٍ عَلَى الرَّذَائِلِ، بَلْ تـَمَرُّدٌ عَلَى الْقِيَمِ، وَتَمَايُزٌ أَجْوَفُ عَلَى حَامِلِيْهَا.. تُقَابِلُهَا بِالضِّدِّ مَلَكَةُ “التَّوَاضُعِ” تِلْكَ الَّتِي تَمْنَحُ صَاحِبَهَا سُمُوَّ التَّرَفُّعِ عَلَى سَفَاسِفِ الأُمُوْرِ، وَالنَّظْرَةَ إِلَى الآخَرِ عَلَى أَنَّهُ الْمُتَمِّمُ لِلذَّاتِ، وَالْمُحَبَّبُ لِلنَّفْسِ بِقِيَمِهِ، وَأَحَاسِيْسِه..
فَفِي الْوَقْتِ الَّذِيْ تَسْتَبِدُّ فِيْهِ عُقْدَةُ الاسْتِعْلاءِ بِصَاحِبِهَا “الْمُكَابِرِ” لِتَجْعَلَهُ يَعِيْشُ وَحْشَةَ التَّعَالِي الْمُوْهُوِمِ يَبْقَى “الْمُتَوَاضِعُ” مَغْمُوْراً بِأُنْسِ التَّفَاعُلِ مَعَ الآخَرِيْنَ مَهْمَا كَانَ عَدَدُهُمْ، وَمَهْمَا كَانَتِ الْمَسَافَاتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَ.. رَائِعَةٌ حِكْمَةُ: “مَنْ تَوَاضَعَ للهِ رَفَعَهُ”.
الشُّعُوْرُ بِالتَّوَاضُعِ يَتَأَتَّى مِنْ خِلالِ وَعْيِ الشَّخْصِيَّةِ لِمَا فِيْهَا مِنْ قُدْرَاتٍ، وَوَعْيِ الْمَسْؤُوْلِيَّةِ، وَمَا تَتَطَلَّبُ مِنْ تَصَدٍّ، وَالتَّصْمِيْمِ عَلَى الانْطِلاقِ لِتَحَمُّلِ الْمَسْؤُوْلِيَّةِ مِنْ دُوْنِ غُرُوْرٍ، أَوْ اعْتِدَادٍ، وَالإِحَاطَةِ بِكُلِّ مَا تَتَطَلُّبُهُ مِنْ مُسْتَلْزَمَات..
الْمُتَوَاضِعُ هُوَ الْمُنْطَوِي عَلَى الْقُدْرَةِ، وَالْكَفَاءَةِ لإِنْجَازِ الْمَهَمَّةِ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ لأَدَاءِ دَوْرِهِ مِنْ جَانِبٍ، وَلا يُشَكِّلُ عَازِلاً مَعَ الْمُتَلَقِّيْنَ لأَنَّهُمْ لا يَشْعُرُوْنَ بِمَا يَمْنَعُ التَّعَاطِيَ مَعَه..
عُقْدَةُ الاسْتِعْلاءِ تَأْخُذُ مَنْحَى آخَرَ وَهُوَ إِثَارَةُ الْمُتَلَقِّي، وَاسْتِفْزَازُهُ إِذْ يَجِدُ صُعُوْبَةً بِالتَّعَامُلِ مَعَه..
التَّوَاضُعُ يَفْتَحُ بَوَّابَةَ التَّعَاطِي عَلَى مِصْرَاعَيْهَا مِنْ دُوْنِ أَيَّةِ مُشْكِلَةٍ، بَيْنَمَا نَجِدُ عُقْدَةَ الاسْتِعْلاءِ تُعَرْقِلُ الأَخْذَ وَإِنْ كَانَ الْمُعْطِي كَفُوْؤاً..
وَبِذَلِكَ يَعِيْشُ الْمُتَوَاضِعُ عَالَمَهُ الدَّاخِلِيَّ الْمَأْنُوْسَ بِالآخَرِ، وَأَنَّ الآخَرَ يُبَادِلُهُ ذَاتَ الشُّعُوْرِ مِنْ دُوْنِ غَضَاضَة..
عَلَى غَيْرِ مَا يَكُوْنُ الْمُسْتَعْلِي يَعِيْشُ أَزَمَةً دَاخِلِيَّةً، وَيُسْدِلُ حَاجِزاً وَإِنْ كَانَ عَلَى دَرَجَةٍ عَالِيَةٍ مِنَ الْكَفَاءَةِ رُبَّمَا تُخَيِّلُ لَهُ أَنَّهُ يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَخْدَعَ الآخَرِيْنَ فِيْمَا يُخْفِي عَنْهُمْ مِـمَّا فِي دَوَاخِلِهِ مِنْ سَيِّئَاتٍ، وَلَكِنَّهُ -بِكُلِّ تَأْكِيْدٍ- لا يَسْتَطِيْعُ أَنْ يَخْدَعَ نَفْسَهُ؛ لأَنَّهُ يَعْلَمُ بِهَا فَقولُ اللهِ {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]
وَصِفَةُ الـْجُحُوْدِ هَذِهِ تُخْفِي حَقِيْقَةَ مَا يُنْكِرُ فِي قَلْبِهِ مِنْ وُجُوْدِ صِفَةٍ مَا، أَوْ حَقِيْقَةٍ مَا يَدَّعِي فِي قَلْبِهِ مِنْ صِفَةٍ لا وُجُوْدَ لَهَا..
طه دخل الله عبد الرحمن
البعنه == الجليل
6/10/2019